فصل: تفسير الآية رقم (196):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (196):

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} يعني الهدى، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده. والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة، هذا قول طاوس، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر.
وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة، لأنه أحد إحرامي التمتع، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج.
وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية ويوم عرفة.
وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر، لأن الله تعالى قال: {فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه.
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر وعائشة، وروي هذا عن مالك، وهو مقتضى قوله في موطئة، ليكون يوم عرفة مفطرا، فذلك أتبع للسنة، وأقوى على العبادة، وسيأتي. وعن أحمد أيضا: جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم.
وقال الثوري والأوزاعي: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء.
وقال عروة: يصومها ما دام بمكة في أيام منى، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة. وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلى يوم النحر. روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى». وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة، وأن ذلك مبدأ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء، على ما يقوله أصحاب الشافعي، وإما لان في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة، وذلك مأمور به. والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره. وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء، فإن قوله: {أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} يحتمل أن يريد موضع الحج، ويحتمل أن يريد أيام الحج، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح، لأن آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي، لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدا. وقد قال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق، لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدى يوم النحر.
الثانية: فقد ذهب جماعة من أهل المدينة والشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز صوم أيام التشريق لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيام أيام منى، قيل له: إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في البخاري أن عائشة كانت تصومها. وعن ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى.
وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواه مرفوعا عن ابن عمر وعائشة من طرق ثلاثة ضعفها. وإنما رخص في صومها لأنه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدى. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق، وقاله الحسن وعطاء. قال ابن المنذر: وكذلك نقول.
وقالت طائفة: إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدى. روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه، فتأمله.
الثالثة: أجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدى، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدى فصام ثم وجد الهدى قبل إكمال صومه، فذكر ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي، فإن لم يفعل أجزأه الصيام.
وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور، وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر.
وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدى، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدى، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد.
الرابعة: قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ} قراءة الجمهور بالخفض على العطف. وقرأ زيد ابن علي {وسبعة} بالنصب، على معنى: وصوموا سبعة.
الخامسة: قوله تعالى: {إِذا رَجَعْتُمْ} يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقال مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان.
وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن. والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل.
وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم.
وقال ابن العربي: إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب.
قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلا في أهله وبلده، والله أعلم. وكذا قال البخاري في حديث ابن عباس: «ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى» كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أمصاركم} [البقرة 196] الحديث، وسيأتي. قال النحاس: وكان هذا إجماعا.
السادسة: قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} يقال: كمل يكمل، مثل نصر ينصر. وكمل يكمل، مثل عظم يعظم. وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات. واختلفوا في معنى قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} وقد علم أنها عشرة، فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لأنه لم يقل وسبعة أخرى- أزيل ذلك بالجملة من قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} ثم قال: {كامِلَةٌ}.
وقال الحسن: {كامِلَةٌ} في الثواب كمن أهدى.
وقيل: {كامِلَةٌ} في البدل عن الهدى، يعني العشرة كلها بدل عن الهدى.
وقيل: كاملة في الثواب كمن لم يتمتع.
وقيل: لفظها لفظ الاخبار ومعناها الامر، أي أكملوها فذلك فرضها.
وقال المبرد: {عَشَرَةٌ} دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة.
وقيل: هو توكيد، كما تقول: كتبت بيدي. ومنه قول الشاعر:
ثلاث واثنتان فهن خمس ** وسادسة تميل إلى شمامي

فقوله خمس تأكيد. ومثله قول الأخر:
ثلاث بالغداة فذاك حسبي ** وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريى ** وشرب المرء فوق الري داء

وقوله: {كامِلَةٌ} تأكيد آخر، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر.
السابعة: قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام. خرج البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى» طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: «من قلد الهدى فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدى محله» ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدى، كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ} إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله عز وجل: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم. والرفث: الجماع والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء.
الثامنة: اللام في قوله: {لِمَنْ} بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: «اشترطي لهم الولاء». وقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها} [الإسراء: 7] أي فعليها. وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم. ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لأنه ليس بدم تمتع.
وقال الشافعي: لهم دم تمتع وقران. والإشارة ترجع إلى الهدى والصيام، فلا هدى ولا صيام عليهم. وفرق عبد الملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه.
التاسعة: واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام- بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه.
وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم. قال ابن عطية: وليس كما قال- فقال بعض العلماء: من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة.
وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام.
وقال الشافعي وأصحابه: هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت. وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية.
العاشرة: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فيما فرضه عليكم.
وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه.

.تفسير الآية رقم (197):

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)}
فيه أربع عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر. و{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} ابتداء وخبر، وفي الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو وقت الحج أشهر، أو وقت عمل الحج أشهر. وقيل التقدير: الحج في أشهر. ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ أحد بنصبها، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف. قال الفراء: الأشهر رفع، لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات. قال الفراء: وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيف شهران، وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر. أراد وقت الصيف، ووقت لباس الطيلسان، فحذف.
الثانية: واختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو العقدة وذو الحجة كله.
وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، وروي عن ابن مسعود، وقاله ابن الزبير، والقولان مرويان عن مالك، حكى الأخير ابن حبيب، والأول ابن المنذر. وفائدة الفرق تعلق الدم، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يردما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر، لأنها في أشهر الحج. وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته.
الثالثة: لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه، لأنها كانت معلومة عندهم. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان. ولعله إنما رآه في ساعة منها، فالوقت يذكر بعضه بكله، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيام منى ثلاثة». وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: رأيتك اليوم، وجئتك العام.
وقيل: لما كان الاثنان وما فوقهما جمع قال أشهر، والله أعلم.
الرابعة: اختلف في الإهلال بالحج غير أشهر الحج، فروي عن ابن عباس: من سنة الحج أن يحرم به في أشهر الحج.
وقال عطاء ومجاهد وطاوس والأوزاعي: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة، وبه قال الشافعي وأبو ثور.
وقال الأوزاعي: يحل بعمرة.
وقال أحمد بن حنبل: هذا مكروه، وروي عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة كلها، وهو قول أبي حنيفة.
وقال النخعي: لا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقد تقدم القول فيها. وما ذهب إليه الشافعي أصح، لأن تلك عامة، وهذه الآية خاصة. ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم، لفضل هذه الأشهر على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي الزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وهو قول الحسن بن حي. قال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج. وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم. واصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل. ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الخز للقدح.
وقيل: {فَرَضَ} أي أبان، وهذا يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره. و{من} رفع بالابتداء ومعناها الشرط، والخبر قوله: {فَرَضَ}، لأن {من} ليست بموصولة، فكأنه قال: رجل فرض. وقال: {فِيهِنَّ} ولم يقل فيها، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال.
وقال المازني أبو عثمان: الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} [التوبة: 36] ثم قال: {مِنْها}.
السادسة: قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ} قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: الرفث الجماع، أي فلا جماع لأنه يفسده. وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدى.
وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام، لقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، من غير كناية، وقاله ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم:
وهن يمشين بنا هميسا ** إن تصدق الطير ننك لميسا

فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم! فقال: إن الرفث ما قيل عند النساء.
وقال قوم: الرفث الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا.
وقيل: الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله.
وقال أبو عبيدة: الرفث اللغا من الكلام، وأنشد:
ورب أسراب حجيج كظم ** عن اللغا ورفث التكلم

يقال: رفث يرفث، بضم الفاء وكسرها. وقرأ ابن مسعود {فلا رفوث} على الجمع. قال ابن العربي: المراد بقوله: {فَلا رَفَثَ} نفيه مشروعا لا موجودا، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] معناه: شرعا لا حسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي. وهذا كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] إذا قلنا: إنه وارد في الأدميين- وهو الصحيح- أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا.
السابعة: قوله تعالى: {وَلا فُسُوقَ} يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس وعطاء والحسن. وكذلك قال ابن عمر وجماعة: الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج، كقتل الصيد وقص الظفر واخذ الشعر، وشبه ذلك.
وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قوله: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} [الحجرات: 11].
وقال ابن عمر أيضا: الفسوق السباب، ومنه قوله عليه السلام: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». والقول الأول أصح، لأنه يتناول جميع الأقوال. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» خرجه مسلم وغيره. وجاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال».
وقال الفقهاء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه.
وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله.
قلت: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده. قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. وقيل غير هذا، وسيأتي.
الثامنة: قوله تعالى: {وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} قرئ {فلا رفث ولا فسوق} بالرفع والتنوين فيهما. وقرئا بالنصب بغير تنوين. وأجمعوا على الفتح في: {وَلا جِدالَ}، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله، ولان المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله، وعلى النصب أكثر القراء. والأسماء الثلاثة في موضع رفع، كل واحد مع لا. وقوله: {فِي الْحَجِّ} خبر عن جميعها. ووجه قراءة الرفع أن لا بمعنى ليس فارتفع الاسم بعدها، لأنه اسمها، والخبر محذوف تقديره: فليس رفث ولا فسوق في الحج، دل عليه {فِي الْحَجِّ} الثاني الظاهر وهو خبر {لا جِدالَ}.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق، أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال.
قلت: فيحتمل أن تكون كان تامة، مثل قوله: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} فلا تحتاج إلى خبر. ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف، كما تقدم آنفا. ويجوز أن يرفع {رفث وفسوق} بالابتداء، ولا للنفي، والخبر محذوف أيضا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة. ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وعليه يكون {فِي الْحَجِّ} خبر الثلاثة، كما قلنا في قراءة النصب، وإنما لم يحسن أن يكون {فِي الْحَجِّ} خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة، لأن خبر ليس منصوب وخبر {وَلا جِدالَ} مرفوع، لأن {وَلا جِدالَ} مقطوع من الأول وهو في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد. ويجوز {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} تعطفه على الموضع. وأنشد النحويون:
لا نسب اليوم ولا خلة ** اتسع الخرق على الراقع

ويجوز في الكلام {فلا رفث ولا فسوقا ولا جدال في الحج} عطفا على اللفظ على ما كان يجب في لا قال الفراء: ومثله:
فلا أب وابنا مثل مروان وابنه ** إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا

وقال أبو رجاء العطاردي: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} بالنصب فيهما، {ولا جدال} بالرفع والتنوين. وأنشد الأخفش:
هذا وجدكم الصغار بعينه ** لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

وقيل: إن معنى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. ومعنى: {وَلا جِدالَ} النفي، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ. قال القشيري: وفيه نظر، إذ فيل: {وَلا جِدالَ} نهي أيضا، أي لا تجادلوا، فلم فرق بينهما.
التاسعة: {وَلا جِدالَ} الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو القتل، ومنه زمام مجدول.
وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض.
فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة. قال الشاعر:
قد أركب الآلة بعد الآلة ** وأترك العاجز بالجداله

منعفرا لست له محاله

العاشرة: واختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها.
وقال قتادة: الجدال السباب.
وقال ابن زيد ومالك بن أنس: الجدال هنا أن يختلف الناس: أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، فالمعنى على هذا التأويل: لا جدال في مواضعه. وقالت طائفة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم، وتقول طائفة: الحج غدا.
وقال مجاهد وطائفة معه: الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسي، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك.
قلت: فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله: {وَلا جِدالَ}، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» الحديث، وسيأتي في براءة. يعني رجع أم الحج كما كان، أي عاد إلى يومه ووقته.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حج: «خذوا عني مناسككم» فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه.
وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم. ويقول الأخر مثل ذلك.
وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء، والله أعلم.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء.
وقيل:
هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال.
وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا} أمر باتخاذ الزاد. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجئ إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد.
وقال عبد الله بن الزبير: كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد، فأمروا بالزاد. وكان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلاثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: «يا عمر زود القوم».
وقال بعض الناس: تَزَوَّدُوا الرفيق الصالح.
وقال ابن عطية: وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة.
قلت: القول الأول أصح، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا، كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين. قال الشعبي: الزاد التمر والسويق. ابن جبير: الكعك والسويق. قال ابن العربي: أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون: نحن المتوكلون. والتوكل له شروط، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه، والله عز وجل أعلم. قال أبو الفرج الجوزي: وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ. قال رجل لأحمد بن حنبل: أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرج في غير القافلة. فقال لا، إلا معهم. قال: فعلى جرب الناس توكلت؟!
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات، فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى. وجاء قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} محمولا على المعنى، لأن معنى: {وَتَزَوَّدُوا}: اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد.
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف.
وقيل: فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار. قال أهل الإشارات: ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى، فإن التقوى زاد الآخرة. قال الأعشى:
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى ** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال آخر:
الموت بحر طامح موجه ** تذهب فيه حيلة السابخ

يا نفس إني قائل فاسمعي ** مقالة من مشفق ناصح

لا يصحب الإنسان في قبره ** غير التقى والعمل الصالح

الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ} خص أولي الألباب بالخطاب- وإن كان الامر يعم الكل- لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. والألباب جمع لب، ولب كل شي: خالصه، ولذلك قيل للعقل: لب. قال النحاس: سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب: أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل؟ قلت نعم، حكى سيبويه عن يونس: لببت تلب، فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا.